مقال بقلم :
د. صالح المبارك
العنصرية داء موجود منذ الأزل في كل بلاد العالم وكل الأزمان ، تزداد وتنقص حسب الظروف السياسية والا هوجتماعية والاقتصادية ، ولكن لا تختفي كليا ولو اختفت ظاهريا لفترة وجيزة فإنها تبقى كجذوة نار تنتظر الحطب كي يرتفع لهيبها.
العنصرية هي تفضيل شريحة من البشر على آخرين لاعتبارات يراهاالعنصريّ، العنصرية يتبعها مشاعر وولاء والتزامات،
العنصرية داء ممقوت لا يقبله دين صحيح أو عقل سليم فلا يمكن أن نقبل بمعيارين مختلفين: هذا لي وهذا لك فالله تعالى يقول (وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُواْ عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ لِيَوْمٍ عَظِيمٍ يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) كما أن العنصرية ظلم والظلم مُحَرّم في نصوص كثيرة في القرآن الكريم والحديث الشريف منها ما روي عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه: (يا عبادي، إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا فلا تَظَالموا).
لكن هناك مشكلتان فيما يتعلق بحوادث العنصرية:
الأولى هي الدقة في الرواية وأسباب وظروف الحادثة فكثيرا ما يصل إلينا جزءا من الحقيقة (هذا إن لو يكن ملفقاً أو مشوهاً) والحكم لا يكون إلا بعد اكتمال الرواية من جميع الأطراف فمثلا إذا تعرض شخص سوري في بلد اغتراب لاحتجاز من السلطات أو اعتداء من بعض مواطني ذلك البلد فقد لا تكون هذه الحادثة ناتجة عن عنصرية بالضرورة فقد يكون هذا المغترب قد ارتكب مخالفة قانونية أو تورط في شجار أو تعرض لجريمة بدافع السرقة أو غير ذلك وقد سمعنا الكثير من هذه القصص ولربما بعضها قديم. لذلك فالتريث بالحكم حتى تكتمل الرواية ويتم توثيقها أمر ضروري.
المشكلة الثانية وهي الأهم برأيي أن يتركز تفكيرنا حول رد الفعل بحيث يأتي بأكبر منفعة وأقل ضرر ممكن لإخوتنا في البقعة التي حصلت فيها المشكلة. هنا يجب تغليب العقل والمنطق السليم على العاطفة، المفترض أن تختار أفضل الخيارات المتاحة لك والتي تؤدي إلى أكبر منفعة أو أقل ضرر لك ولمن حولك.
في أي موقف يواجهنا علينا أن نضع المنطق قبل العاطفة ، والحلول العملية الواقعية قبل النظرية لا سيما وأن الخيارات المتاحة للسوريين تتناقص للأسف يوماً بعد يوم. الدول العربية منقسمة ما بين دول غير مستقرة كاليمن والسودان وليبيا ودول تضع العوائق والقيود على القادمين السوريين ودول لا تسمح لهم بالإقامة كليا. أما دول العالم الأخرى فقد أخذت دول أوروبا ما يكفيها من المهاجرين وصارت الهجرة إليها صعبة أو حتى مستحيلة ، وكذلك دول أخرى مثل أميركا وكندا وأستراليا ، وحتى بعض الدول التي كانت تعطي تسهيلات للقادمين (سوريين وغيرهم) جعلت الأمر أكثر صعوبة وتعقيدا. السؤال يبقى: أين هو المكان الأفضل وهل هو ممكن ومتاح؟ لا أريد أن أخسر مكاني قبل أن أضمن مكاناً أفضل.
هناك جانب آخر للموضوع فالصراخ والشتم وإهانة البلد حيث يقيم هذا السوري المهاجر ربما يعبر عن “فشّة خلق” تعطيه شيئا من الراحة النفسية لفترة وجيزة لكن رد الفعل غير المنضبط هذا سيعود عليه وعلى غيره في نفس البلد بنتائج سلبية تفوق تلك الراحة النفسية بمليون مرة. وكذلك: لكل مقامٍ مقال ولكل حادث حديث ، فهناك الكثير من “الحقائق” والكلام الصادق ما قد ينافي في سياقٍ ما الحكمة والمصلحة. ولنتذكر تعذيب أميّة بن خلف لسيدنا بلال بن رباح: كان بلال يكتفي بالقول: أحدٌ أحد… ولم يشتم سيده مع أنه كان يستحق الشتم ، كذلك الأمر مع آل ياسر (يار وسيمة وعمار) حيث كان يعذبون فقط لأنهم أسلموا حتى استشهدت سمية واضطر عمار تحت التعذيب أن يسبَّ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ويذكر آلهتهم بخيرفتركوه، فلما أتى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ، قال: ما وراءك؟، قال: شر يا رسول الله، ما تُرِكْتُ حتى نِلْتُ منك وذكرت آلهتهم بخير، قال: كيف تجد قلبك؟، قال: أَجِدُ قَلْبِي مطمئناً بالإيمان، قال: فإن عادوا فعد، فأنزل الله تعالى” مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ”. بل إن رسول الله ﷺ نفسه كان يُعرِض عن المشركين الظالمين (في العهد المكي الذي دام 13 سنة) الذين كانوا يشتمونه ويقول عنه كذاب أو ساحر أو كاهن أو مجنون ، ويؤذونه ويؤذون أصحابه ولم يكن يرد رغم أن الرد من حقه في الوضع المثالي… ثم هاجر هو أصحابه وتمكنوا ثم انتصر على الباطل وعفا عن مقدرة.
كذلك انظر إلى حكمة سيدنا محمد ﷺ بعد فتح مكة وبعد العفو العام الذي استثنى منه بضعة رجال أهدر دمهم لأنهم كانوا من كبار المجرمين ، من بينهم عكرمة بن أبي جهل الذي هرب تجاه اليمن ، وكانت امرأته ذات عقل وحكمة فأتت رسول الله ﷺ وطلبت منه العفو عن زوجها وتعهدت بأن تأتي به مسلماً تائباً فقبل رسول الله ﷺ فذهبت إلى زوجها وأقنعته ، وقبل أن يصلا إلى المدينة قال رسول الله ﷺ لأصحابه: “سيأتيكم عكرمة بن عمرو (ولم يقل ابن أبي جهل في هذا السياق) مؤمنا مهاجرا فلا تسبّوا أباه فإن سب الميت لا يصل الميت ويؤذي الحي.” وكان هذا مما جعل عكرمة يقدم على دينه الجديد والمجتمع المسلم إقدام التائب المحب فنذر نفسه وماله في سبيل الله حتى مات شهيداً. تصور لو أن بعض الصحابة صار يعيّر عكرمة بأبيه وهو أمر صحيح ولكنه مجافٍ للحكمة فماذا كان سيكون رد فعل عكرمة وهو حديث عهدٍ بالإسلام؟ إنه حساب المنفعة والضرر ، الربح والخسارة للمجتمع والأمة.
الحرص على المصلحة أمرٌ مطلوب إذا كنا نتحدث عن مصلحة شرعية منطقية ليس فيها تعدٍّ على حقوق الآخرين ، فكلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته ، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك انسحاب سيدنا خالد بن الوليد بجيش المسلمين في معركة مؤتة، العرب تقول: الكثرة تغلب الشجاعة ، ونحن نعلم أن سيدنا خالد كان قويا شجاعا توّاقاً للشهادة في سبيل الله ولكنه استشعر مصلحة جيشه وأمته وهو في موقع المسؤولية.
ليت كل منا يفكر في عواقب كلامه وأفعاله وإلى ماذا ستؤدي؟ إلى خير أو شر له ولأهله ومن هو في ظروفه من الناس… ثم نقرر ماذا نقول وماذا نفعل.