بقلم : عمر الغبسو
ضابط سوري، وزير الحربية، بطل معركة ميسلون وشهيدها.
ولد يوسف العظمة في حي الشاغور بدمشق، لأسرة كبيرة وعريقة، وكان أبوه موظفاً في دائرة مالية دمشق، ولما بلغ من العمر ست سنوات توفي والده ، فكفله شقيقه الأكبر عزيز. دخل يوسف إحدى مدارس دمشق الابتدائية، ومنها انتقل عام 1893 إلى المدرسة الرشدية العسكرية التي كانت تقع في حي «البحصة» بدمشق، ثم إلى المدرسة الإعدادية العسكرية عام 1897، والتي كان مقرها في جامع دنكز، وانتقل عام 1900 إلى المدرسة الحربية العسكرية «قله لي» في اصطنبول، وفي العام التالي دخـل المدرسة الحربية العالية «حربية شهانة» وتخرج فيها برتبـة «ملازم ثـان» سنة 1903، ورفّع إلى رتبة «ملازم أول» سنة 1905، ثم إلى رتبة «نقيب» سنة 1907 بعد أن قام بدورة أركان حرب محلية في اصطنبول، وفي أواخر عام 1909 أوفد في بعثة دراسية إلى ألمانيا حيث درس في مدرسة «أركان الحرب العليا» مدة سنتين (1909ـ 1911) عاد بعدها إلى الأستانة، وعُيَّن ملحقاً عسكرياً في المفوضية العثمانية العليا في القاهرة.
شارك الشهيد يوسف العظمة في حرب البلقان عام 1912، وفي عام 1917 عيَّن مساعداً لأنور باشا المفتش العام للجيش العثماني، وشارك في الحرب العالمية الأولى تحت قيادة القائد التركي حلمي باشا في منطقة الروميلي (مقاطعة كليسة)، وعُين في أواخر الحرب رئيس أركان حرب الفيلق الأول الذي دافع عن الدردنيل حتى نهاية الحرب.
بقي العظمة في تركيا إلى أن سمع بتشكيل الحكومة العربية في دمشق فاستقال من منصبه في الجيش التركي ـ على الرغم من زواجه من سيدة تركية رزق منها بفتاة اسمها «ليلى» وهي طفلته الوحيدة ـ والتحق بالجيش العربي في دمشق.
بعد التحاقه بالجيش العربي الفيصلي، عيّن العظمة ضابط ارتباط في بيروت، حيث استخدم الشفرة لأول مرة في مكتب الحكومة العربية هناك، وبعد إعلان الملكية نُقل من بيروت، وعُين رئيساً لأركان حرب القوات العربية ـ بعد ترقيته إلى رتبة «عميد»، ثم عند تشكيل وزارة هاشم الأتاسي الدفاعية ـ في 3 أيار/مايو/1920 أسندت إليه وزارة الحربية، فعكف على تنظيمها وتقوية الجيش العربي اليافع، وقام بإجراء عرض عسكري في دمشق لتقوية الروح المعنوية في الجيش ولدى السكان، ولكن الأقدار لم تمهله لإكمال تنظيم هذا الجيش وتقويته.
وحينما أخذت الحكومة الفرنسية تعد لتنفيذ الانتداب الذي أقره مؤتمر ڤرساي ـ حسب تقسيمات اتفاقية «سايكس ـ بيكو» ـ وكأنه عملية احتلال عسكرية كاملة، عقدت هدنة مع تركيا، وأرسلت قوات عديدة إلى الشرق وفوضت الجنرال «غورو» مفوضها السامي بإرسال إنذار نهائي إلى الملك فيصل، وفي يوم 14 تموز/يوليو/1920 وجّه الجنرال «غورو» إنذاراً خطياً إلى الملك فيصل تضمّن:
ـ وضع السكك الحديدية بتصرف الفرنسيين مطلقاً.
ـ التعامل بالعملة التي فرضتها فرنسا.
ـ حلّ الجيش العربي وإلغاء التجنيد الإجباري.
ـ قبول الانتداب الفرنسي.
ومع الرفض الشعبي والاستياء الشديد من الإنذار، إلا أن الملك فيصل وحكومته قررّا قبول الإنذار لسببين مهمين:
ـ نزولاً عند نصيحة اللورد الإنجليزي اللنبي عند استشارته؛ إذ أشار بسرعة القبول لتفويت الفرصة التي يسعى إليها غورو بدخول دمشق دخول الفاتحين.
ـ ضعف الذخائر والأسلحة لدى الجيش العربي.
قُبل الإنذار، ولم يقبل يوسف العظمة به، وأصَّر على الدفاع عن الوطن وعدم الرضوخ للمطالب الفرنسية، وصمم على الدافع عن دمشق وهو يعرف أنه سيستشهد، فقال لساطع الحصري وهو يودعه: «إني أترك ابنتي الوحيدة ليلى أمانة في أعناقكم».
وأرسل الملك فيصل برقية إلى غورو في بيروت لإعلامه بقبول الإنذار، فردّ غورو بأن المقصود بالإنذار ليس القبول فحسب، بل تنفيذ شروطه كاملةً قبل منتصف ليل 21 تموز 1920، وفي الحقيقة لم يكن هناك مبرر لهذا الرد، لأن الحكومة العربية بدأت بتنفيذ الشروط وتسريح الجيش على الرغم من رفض «المؤتمر السوري» الذي عقد جلسة استثنائية يوم 19 تموز، وسحب الثقة من الحكومة، إلا أن الملك فيصل أرسل مذكرة جديدة إلى غورو عن طريق المعتمد الفرنسي في دمشق الكولونيل كوس، فلم يرسل كوس المذكرة إلى غورو، واكتفى بإرسال برقية، ولكن البرقية تأخرت بسبب تعطل خطوط البرق، فتذرع غورو بتأخرها، وأصدر الأمر إلى جيشه بالتحرك نحو دمشق.
حشد يوسف العظمة القوات العربية من حلب إلى مرجعيون، وقسَّم جبهته إلى ثلاث مناطق: الأولى منطقة حلب، والثانية منطقة حمص ـ تلكخ، والثالثة مجدل عنجر ـ مرجعيون مع علمه أن معركته معروفة النتائج لفقدان تكافئ القوى، وبدأ العظمة يَحثّ الناس على الخروج إلى ميسلون لصد العدو، فتراكض جمع غفير إلى هناك مسلحين بالبنادق والمسدسات القديمة والسيوف وحتى بالمقالع؛ لينضموا إلى فلول الجيش التي حاول العظمة جمعها قبل إتمام أمر تسريحه الذي صدر سابقاً استجابة للإنذار.
لم يعد هناك بد من خوض معركة غير متكافئة بين الجيش الفرنسي المجهز بأحدث أسلحة العصر والبالغ عدد أفراده 9000 جندي بقيادة الجنرال غوابيه ـ وهو حفيد أحد القادة الصليبيين الذين جاؤوا لغزو سورية في الحملة الصليبية الثانية عام (1147م ) ـ وبين 8000 جندي، نصفهم على الأقل من المتطوعين والمسلحين بأسلحة قديمة، من دون دبابات أو طائرات أو تجهيزات ثقيلة.
خرج العظمة ليتولّى قيادة الجيش في ميسلون في يوم 23 تموز 1920 واجتمع بالضباط الذين لم يتم تنفيذ أمر تسريحهم وأبلغهم أن الحرب لابد قائمة. وعرض على قادته خطته الدفاعية ـ الهجومية، والتي تتلخص في تنظيم خط دفاعي في وسط الجبهة على جانبي الطريق (القلب)، مع فرز وحدات حقيقية إلى يمين الجبهة ويسارها لحماية الجناحين (الجناح الأيمن والجناح الأيسر)، إضافة إلى وضع ألغام محلية الصنع على الطرق المؤدية إلى المنطقة.
وتمركز العظمة في مركز قيادة الجبهة في أعلى مرتفع يشرف على الجبهة بكاملها، وبعد أن أدى صلاة الصبح يوم 24 تموز بدأ بالاستعداد لخوض المعركة التي استمرت من الفجر حتى الظهر.
كانت حال المعركة حسنة حتى الساعة التاسعة حينما بدأت المدفعية الفرنسية بالتغلب على المدفعية العربية، وبدأت الدبابات الفرنسية بالتقدم باتجاه الخط الأمامي العربي في دفاع القلب، وعوّل العظمة على الألغام المدفونة لإيقاف تقدّم هذه الدبابات، إلا أن الألغام لم تقم بعملها ولم تؤثر؛ فأسرع إليها يبحث، فإذا بأسلاكها قد قطّعت، وأخذت الطائرات الفرنسية تلقي بحممها على القوات العربية، وتمكن الفرنسيون من تحقيق نصر غير شريف؛ لكثرة عددهم وقوة تسليحهم على الرغم من استبسال المجاهدين في الدفاع عن الكرامة العربية. وفي أثناء المعركة وبعد نفاد الذخائر نزل العظمة من مكمنه على جانب الطريق حيث يوجد مدفع عربي سريع الطلقات، وأمر رقيب المدفع بإطلاق النار على الدبابات المتقدمة، فما كان من أحد رماتها إلا أن أطلق ناره باتجاههما فسقطا شهيدين في الساعة العاشرة والنصف من صباح 24 تموز. استشهد العظمة في معركة الكرامة التي خاضها دفاعاً عن شرفه العسكري وشرف بلاده، فانتهت حياته وحياة الحكومة العربية التي تأسست في دمشق يوم 18 آذار/مارس/1920، وانتهت في 24 تموز 1920.
ويبقى الشهيد البطل يوسف العظمة رمزاً للمقاومة القومية ضد الاستعمار، ويكفيه فخراً أنه أول وزير دفاع عربي يخوض معركة ويستشهد فيها.
شخصية الشهيد يوسف العظمة في الشعر العربي الحديث:٢
خاضت سورية معركة الرفض وتأهّبَتْ لحماية شرف استقلالها الوليد الذي راح يهدِّده إنذار غورو … وشعَّ في الأفق موقف الشهيد يوسف العظمة. هذا الموقف الرافض بإباء و عزّة لشروط غورو والاستسلام له. فكان أمام يوسف العظمة طريق المواجهة وهذا ما كان في روابي ميسلون قرب دمشق .
وكان له شرف الاستشهاد مع رفاقه الأباة. وما استشهاده إلاّ ثمرةٌ غُرِسَتْ في نفسِ كلِّ أبيٍّ فكانت بذرةَ الجلاءِ فراحَتْ تنمو في النفوس و تُثْمِرُ في المواجهات و تجنى في الجلاء .
من هنا بدأت رحلة الجلاء المسطّرة بالدم و الفداء والرفض فلم يعرف المحتل البغيض طعم النوم و مذاق الهناء في بقعة من الوطن العربي حتى نالت استقلالها في القرن العشرين . هذا الجلاء وراءه رجالٌ و مجاهدون أحرار وحَّدوا النضال الوطني في كلِّ الوطن و الأقاليم بعيداً عن كلِّ حساسيّة ، ولذلك انخرطَتْ الجماهير بعفويتها و إيمانها للذود عن حياض الوطن .
وكانت معركة ميسلون و استشهاد المجاهد يوسف العظمة المحرِّك المدوِّي لنفوس الشعراء فألهَبَ قرائحهم وألَّبهم على أعدائهم . فانخرطوا في صفوف النضال واعين رسالتهم .
وحفل الشعر في ذكر ميسلون ويوسف العظمة . واستلهم الشعراء الكثيرَ من المعاني النبيلة . فهناك قصائد و أبيات خلّدت ميسلون وشهيدها و فيها الكثير من الصدق والعفوية فالشاعر سليم الزركلي نظّم نشيداً خاصاً لطلاب مكتب عنبر وقد لحَّنَهُ الموسيقي المرحوم فائز الأسطواني وجاء فيه:
يا روابي ميسلون يا روابي ميسلون
بالضحايا ذكِّرينا غالها الدهرُ الخؤون
يا رياحين البلاد يا أزاهير الجنان
جرِّدوا سيف الجهاد و تنادوا للطعان
جدَّدوا العهد الأمينا لزعيم الشهداء
و انصروا الحقَّ المبينا بالتآخي و الولاء
هذه المقاطع من النشيد تقترب من نفوس الفتيان، فتشحذ هممهم . وفي معركة ميسلون قيل الكثير وبقيت مرسومة بصفاء في نفوس الشعراء الذين عايشوها عن قرب . فالشاعر خير الدين الزركلي يذكر ذاك اليوم البغيض الذي حلَّ على الشعب الغاضب الثائر :
الله للحدثان كيف تكيد بردى يغيض و قاسيون يميدُ
تفد الخطوبُ على الشعوب مغيرةٌ لا الزجرُ يدفعها ولا التنديدُ
بَلَدٌ تبوَّأه الشقاء فكلَّما قدم استقام له به تجديدُ
لهفي على وطنٍ يجوسُ خلاله شُذَّاذُ آفاقٍ شراذم سودُ!
وأشاد الشاعر خليل مردم بك ببطولات معركة ميسلون الباسلة و أبدى حزنه لما آل إليه أمرها:
إنّي أرى (بردى ) تفيض عيونه بدموعها حزناً على ماضيكِ
و أرى هضابك كالقبور ، عذابها من كلِّ غصن نادبٍ يرثيك
في ميسلون أسى يطول و حسرةٌ عانيهما ما كان بالمفكوك
وللشاعر خليل مردم بك أكثر من قصيدة يحيي فيها ذكرى ميسلون، فيقول في إحداها مخاطباً الشهيد يوسف العظمة:
عرفْنا يومَ يوسفَ مبتداها فَهَلْ من مخبر عن منتهاها
أيوسف والضحايا اليوم كثرٌ ليهنك كنت أوَّل من بداها
مصيبة ميسلونٍ إن أَمَضَّتْ أخفُّ وقيعةً ممَّا تلاها
فما من بقعة بدمشق إلاّ تمثِّلُ ميسلونَ وما دهاها
ومن الطبيعي أن تكون ميسلون مبعث اعتزاز و موقع ثقة لدى الشعراء فالشاعر بدر الدين الحامد يتغنَّى بصمود يوسف و استشهاده ويندِّد بوعود الغرب الكاذبة:
نحنُ قومٌ من الممات اتَّخَذْنا عن يقينٍ الى الحياة سبيلا
“يوسفٌ ” خرَّ في الشآم صريعاً و كفانا به شهيداً نبيلا
أخذونا بالانتداب و قالوا: نحن أقوى يداً ، و أسمى عقولا
سنريكم دنيا الحضارة تزهو وَعْدَ صدقٍ كالصبحِ معنى وكيلا
وتوقَّف الشاعر عمر أبو ريشة عند ميسلون وهو في نشوة الفرح بالجلاء و اعتبرها حَجَرَ أساسٍ في نهوض أمَّتنا وثباتها رغم عاتيات الزمان .
واعتبرها معارك أمّة خاضتها عبر تاريخها ، وناضَلَتْ بشرف لنيل مبتغاها:
كم لنا من ميسلون نفضت عن جناحيها غبار التعبِ
كم نبتْ أسيافُنا في ملعبٍ وكبَتْ أجيادُنا في ملعبِ
من نضال عاثرٍ مصطخبٍ لنضالٍ عاثرٍ مصطخبِ
شرفُ الوثبة أن ترضي العُلى غُلِبَ الواثبُ أم لم يُغْلَبِ
فمعركة ميسلون و ما جرى فيها كانَتْ مجالاً رحباً و أفقاً واسعاً للشعراء منها ينهلون، و يسكبون فيها بنات أفكارهم وآراءهم فالشاعر عبد الله يوركي حلاّق تغنّى من خلالها بالوحدة والتراث وجسّد معاني الانتماء:
في ميسلونَ ينامُ كوكبُ يعربٍ يا للغرابة كيف يغفو الكوكبُ
ما مات يوسفُ فهوَ في تاريخنا و قلوبنا حيُّ البسالةِ طيِّبُ
الخلدُ يعرفُهُ و يعرف أنَّهُ نَغَمٌ على شفةِ الإباءِ و مُطْرِبُ
و الباحث في طيِّ الدوريات و الدواوين يجدُ عقداً ثميناً من القصائد و الأبيات التي توقفت عند هذا الحدث الجليل فالشاعر فارس قويدر يهدي قصيدته ( قبس من ميسلون ) الى الشهيد يوسف العظمة و ذلك في مجلة الجندي العربي:
غورو هناك ، ومشعلي في انتفاضتِهِ نهرٌ من النارِ ، لم تسمعْ به النارُ
فأرجفَ البغيُ مذعوراً لصرختهم : ” يفديك يا وطن الأحرارِ” أحرارُ
أيعبرونَ و قتلانا جدارُ دمٍ ونحنُ في زحمةِ الأقدارِ .. أقدارُ
و لكنَّ اللافتَ و الرائع أن ميسلون و شهيدها لامَسَتْ وجدان الشعراء العرب في الأقطار العربية والمهجر .
وهذا معهودٌ لدى شعراء العربية فالإحساسُ القومي نابضٌ وحارٌّ . فالآلام توحِّدُ مشاعرهم و الآمالُ تشدُّ من أزرهم.
فمن مصرَ ارتفع صوت أمير الشعراء أحمد شوقي:
سأذكر ما حييتُ جدارَ قبرٍ بظاهرِ جلَّقٍ ركبَ الرِّمالا
مقيمٌ ما أقامَتْ ميسلونٌ يذكِّرُ مصرعَ الأسدِ الشِّبالا
ترى نورَ العقيدةِ في ثراهُ و تنشقُ مِنْ جوانبهِ الخلالا
مشى و مَشَتْ فيالق من فرنسا تجرُّ مطارفَ الظفر اختيالا
سلوهُ : هل ترجَّلَ في هبوبٍ من النيرانِ أَرْجَلَتِ الجبالا
في القصيدة يعلو وجدان الشعر و تبرز الصور الفنيَّة الموحية ، وتغنّى الشاعر المصري على محمود طه بميسلون ففي ديوانه قصيدة ” شهيد ميسلون ” والشاعر معروف بروحِهِ الثورية الواثبة وهو صاحب القصيدة الرائعة ومطلعها:
أخي جاوز الظالمون المدى فحقُّ الجهادِ و حقَّ الفِدا
يقول الشاعر في شهيد ميسلون:
في موكب الفادين مجد أميّة بجوانحٍ مشبوبةٍ و جوارحِ
لو قستَهم بعدوِّهم وسلاحِهِ أيقنْتَ أنَّهمو فريسةُ جارحِ
يا ميسلونُ شهدْتِ أيَّ روايةٍ دمويَّةٍ ، ورأيتِ أيَّ مذابحِ
ووقفْتِ مُثْخنةَ الجراحِ بحومةٍ ماجَتْ بباغٍ في دمائكِ سابحِ
يا يوسفُ العظماتُ غرسُكَ لم يضعْ وجناهُ أخلَدُ من نتاج قرائحِ
هذه القصائد تبرز عمق الارتباط القومي ومتانته .
هذا الارتباط الوثيق الذي عبَّر عنه الشعراء بمشاعرهم الفيَّاضة الصادقة.
وهذا ليس بغريب عن أدباء العربية المنتمين الى أرومتهم انتماء صافياً كصفاء نفوسهم . فالرصافي يهزأ من غورو و يخاطبه غاضباً من إنذاره و تصرفاته الرعناء:
رويدك غورو أيّهذا الجنرال فقد آلَمَتْنا من خطابك أقوال
أسأتْ إلينا بالذي قد ذكرته من الأمرِ فاستاءت عصورٌ و أجيال
إليك صلاح الدين نشكو مصيبة أصيبَ بها قلبُ العلا فّهْو مقتال
والشاعر هنا يشير الى مقولة غورو عندما دخل دمشق غازياً فتوجَّه الى ضريح صلاح الدين و قال له ” ها نحن عُدْنا يا صلاح الدين ” .
ومن المهاجر الأمريكية تواصل الأدباء العرب مع هذا الحدث الجلل و هذه المواقف البطولية الرائعة فأبو الفضل الوليد يشيد بصمود يوسف العظمة في ميسلون:
تربَّصَ إحدى الحسنيين تبسُّلا فما عابه ألاَّ يكون المظفَّرا
وأيقن أن النصرَ في جنبِ خصمِهِ و لكن رأى حظَّ الشهيدين أفخرا
على أشرف الميتات وطَّن نَفْسَهُ فشدَّ لكي يلقى الردّى لا لينصرا
وما ذاك إلاَّ من إباءٍ و عزَّةٍ يزيدان نفس المستميت تكبُّرا
أيوسفُ يا بن العظمة استعظم الورى شهادتك المثلى، ومثلك لم يرا
فنم في ثراها مطمئناً مكرّماً فذاك الثرى قد صار مسكاً و عنبرا
سلام على الأبطالِ إنَّ دماءَهم ستحيي شعوراً لن يموت ويقبرا
فالأبيات تنبض بالتقدير و الإعجاب وتتعامل مع الشهادة من خلال صراع يعيشه الإنسان وبقي مع شعراء المهجر الذين ابتعدوا جسداً عن الوطن الأم، وارتبطوا روحاً تتألم لأوجاعِ الأمة، وتفرح لفرحها .
فهذا إلياس فرحات يحسِّد معنى الشهادة والثبات والتنديد لسياسة الاستعمار :
قولوا لغورو كلّما لَمَعَتْ أزرارُهُ فاختالَ وابتسما
مَيْتُ العلى حيٌّ بمبدئهِ وعدوُّه مَيْتٌ ولو سلما
مجد الشآم بميسلونَ بدا غرساً سقوهُ دماءَهمْ فنما
يا ميسلون سُقيتِ كلَّ ضحىً دمعَ الغمامِ كما سُقيتِ دما
ويعود الشاعر الى ذكرى ميسلون مع ابتهاجه في إعلان نار الثورة السورية الكبرى فلا يجد مانعاً في اختيار عنوان ” يا ميسلون ” فيتوجه إليها:
يا ميسلون تجدَّدَ العمل لعُلاك فليتجدَّدِ الأملْ
يا ليْتَ غورو حاضرٌ ليرى ضرباً تميدُ لهولِهِ القِلَلْ
أبني الشآم اليومَ يومكمو للمجدِ هذا الحادثُ الجلل
مرحى بني معروف إنَّ لكم جيشاً تضيق بخيلهِ السبل
يا سائلي عنهم أتجهلهمْ وهمُ الذين على العلى جُبلوا
وللشاعر إلياس فرحات أكثر من قصيدة يشيد فيها بميسلون ويوسف العظمة و قد قال يوم احتفل المغتربون في البرازيل بوضع تمثال بطل ميسلون:
شاعر الأحرار في هذي المهمّه محفِلُ الأحرارِ يبغي أن نؤمّه
إن يقلْ ما ميسلونٌ جاهل؟ قلْ: مثارُ الفخر في تاريخ أمّه
وللشاعر القروي حصَّة عظيمة في ذكر ميسلون وقد أشاد بها و ذكرها في قصيدته ” عيد الأضحى ” و قد جاء العيد بعد ميسلون:
إنَّ بالعظمةِ أعلى مثلٍ للفدى تنشده النفس الأبية
ودَّعَ الغوطة يبغي جنَّةً غيرها تحتَ ظلالِ المشرفيّة
يا معيداً مجدنا الضائعَ ، نَمْ مُسْتريحاً في ظلال الأبديّة
هذا الاحساس القومي الرائع ينبض في ثنايا كلِّ حرف وبيت، وهنا تكمن عظمة الكلمة النابعة من الأعماق وهذا ما بدا في قصيدة ” جورج صيدح ” في ذكر الجلاء:
زغردي يا حرائرَ الشامِ ، هذا مهرجانٌ لأختك الحرّيّة
خطبوها في ميسلون فأدّى ” يوسفُ ” المهرَ بالدماء الزكيّة
وانطلق صوت الشاعر إيليا أبو ماضي مشيداً بيوسف العظمة
وراسماً عظمة رسالته ودوره في قصيدته ” تحية الشام “
ما كان يوسفُ واحداً بل موكباً للنور غلغل في الشموسِ فغابا
هذا الذي اشتاق الكرى تحت الثرى كي لا يرى في جلَّق الأغرابا
وإذا نبا العيشُ الكريم بماجدٍ حرٍّ رأى الموتَ الكريم صوابا
إنّي لأزهى بالفتى وأحبُّهُ يهوى الحياةَ مشقّةً و صعابا
ورد ذكر ميسلون ويوسف العظمة كثيراً وخاصة في قصائد
قيلت بمناسبة الجلاء وذكرى ميسلون، وهي مطوَّلة تستحقُّ دراسة متأنيّة فيها الكثير من الدقة والتحليل .
فكانت ذكرى الجلاء باعثة للذكريات واسترجاحِ قيم النضال ولذلك كان الجلاء من ميسلون .
وميسلون أوَّل لبنة من لبنات الجلاء العظيم الذي جاء ثمرة التضحيات فيقول الشاعر زكي قنصل:
كلُّ شبرٍ من أرضِها ميسلونٌ يجثم العزُّ حولها والوقارُ
وإذا كلُّ ربوةٍ ميسلونٌ وإذا كلُّ ساحةٍ مضمار
ونبقى مع الشاعر زكي قنصل الذي أنشد قصيدة رائعة في الذكرى الخمسينية لموقعة ميسلون وعنوانها ((مواكب الشهيد )):
هتكوا حماكَ وأنتَ لم تثبِ أولَسْتَ من عدنانَ يا عربي
أين الحميَّةُ ، هل هي انطفأت أم أنَّها ذهبت مع السلبِ ؟
مثواكَ محرابي أطوف به وأحوم بالنجوى على النصب
وهناك الكثير ممَّا قيل في ميسلون وبطلها يوسف العظمة الذي ضَرَبَ مثلاً في الرفضِ والإباء والعزّة .
وهذا ما ألهب نار الثورة من بعده .
فما الثورات والنضال الوطني الذي أدّى إلى الجلاء إلاَّ من سعير ميسلون وهداها .
وتبقى ميسلون مجالاً رحباً للدراسة مع معارك تاريخية أخرى خاضتها أمَّتنا العربية كحطين وعين جالوت والمنصورة …
وهي دعوة فيها الكثيرُ من العمل والفائدة.
كانت سوريا خلافا لباقي البلدان العربية
كانت وما زالت الحاضنة لرجالات كبار مثقفين مؤمنين تحمل نفوسهم النبيلة الشجاعة، والاقدام والعزة وكرامة الشهادة.
ولكن عصابة الإجرام تحاول طمس بطولات الشعب السوري لكي يظهر بائع الجولان بأنه صانع مجد سورية الحديثة، وعلى طريقه سار ولده القاصر المعتوه وعصابته.
مراجع للاستزادة:
ـ إحسان الهندي، معركة ميسلون (دمشق 1967) .
ـ غسان كلاس، يوسف العظمة شهيد ميسلون (دار حازم، دمشق 2001).
ـ محيي الدين السفرجلاني، فاجعة ميسلون والبطل يوسف العظمة (مطبعة الترقي، دمشق 1937).