وقد حلل هذا التحول السلبي إمامان كبيران أولهما: الشيخ محمد عبده فقال:
كان الإسلام ديناً عربياً ثم لحقه العلم فصار علماً عربياً بعد أن كان يونانياً، حتى سيطر الترك والديلم وغيرهم ممن لم يكن لهم ذلك العقل الذي راضه الإسلام، والقلب الذي هذبه الدين، بل جاءوا إلى الإسلام بخشونة الجهل، يحملون ألوية الظلم، فلبثوا ثوبه على أبدانهم، ولم ينفذ منه شيء إلى وجدانهم فمالوا على العلم وصديقه الإسلام ميلتهم. أما العلم فلم يحفلوا بأهله، وقبضوا عنه يد المعونة، وحملوا كثيراً من أعوانهم على أن يندرجوا في سلك العلماء، وأن يتسربلوا بسرابيلهم ليعدوا من قبيلهم، ثم ليضعوا للعامة في الدين ما يبغض إليهم العلم ويبعد بنفوسهم عن طلبه ودخلوا عليهم وهم أغرار من باب التقوى وحماية الدين، وزعموا أن الدين ناقصاً ليكملوه. فاستعاروا للإسلام ما هو منه براء ونجحوا في إقناع العامة بأن في ذلك تعظيم شعائره، وتفخيم أوامره والغوغاء يرعون الغاشم، وهم يد الظالم فخلقوا لنا هذه الاحتفالات وسنوا لنا عبادة الأولياء والعلماء والمشتبهين بهم مما فرق الجماعة وأوقع الناس في الضلالة وقرروا أن المتأخر ليس له أن يقول بغير ما يقول المتقدم وجعلوا ذلك عقيدة، حتى توقف الفكر، وتجمدت العقول، ثم بثوا أعوانهم في أطراف الممالك الإسلامية، ينشرون من القصص والأخبار والآراء ما يقنع العامة بأن لا نظر لهم في الشئون العامة، وأن كل ما هو من أمور الجماعة والدولة هو مما فرض فيه النظر على الحكام دون من عداهم، ومن دخل في شيء من ذلك من غيرهم فهو متعرض لما لا يعنيه، وأن ما يظهر من فساد الأعمال واختلال الأحوال ليس من صنع الحكام، وإنما هو تحقيق لما ورد في الأخبار من أحوال آخر الزمان، وأنه لا حيلة في إصلاح حال ولا مآل، وأن الأسلم تفويض ذلك إلى الله، وما على المسلم إلا أن يقتصر على خاصة نفسه، ووجدوا في ظواهر الألفاظ في بعض الأحاديث ما يعينهم على ذلك، وفي بعض الأحاديث الموضوعة والضعيفة ما شد أزرهم في بث هذه الأوهام.
وقد انتشر بين المسلمين جيش من هؤلاء المضللين، وتعاون ولاة الشر على مساعدتهم في جميع الأطراف، واتخذوا من عقيدة العذر مثبطاً للعزائم وغلا للأيدي عن العمل، والعامل الأقوى في عمل النفوس على قبول الخرافات إنما هو السذاجة، وضعف البصيرة في الدين، وموافقة الهوى- وهي أمور إذا اجتمعت أهلكت- فاستتر الحق تحت ظلام الباطل، ورسخ في نفوس الناس من العقائد ما يتضارب وأصول دينهم ويباينها على خط مستقيم.
هذه السياسة، هي التي روجت ما أدخل على الدين مما لا يعرفه، وسلبت من المسلم أملاً كان يخترق به أطباق السماوات، وأخلدت به إلى يأس يجاور به العجماوات ..هناك استعجم الإسلام وانقلب عجيماً “. (6)
أما ثانيهما: فهو الإمام حسن البنا رحمه الله! فقال محللاً ذلك سائراً على درب أستاذه الشيخ محمد عبده فقال:
” إن من أهم عوامل التحلل والتراجع الحضاري في الدولة الإسلامية.. انتقال السلطة والرياسة إلى غير العرب، من الفرس تارة والديلم تارة أخرى والمماليك والأتراك وغيرهم ممن لم يتذوقوا طعم الإسلام الصحيح، ولم تشرق قلوبهم بأنوار القرآن، لصعوبة إدراكهم لمعانيه”. (7)
والتصور الإسلامي للحرية:
– مفهوم الحرية في الإسلام وضوابطها:
الحرية في الإسلام: ما منحه الله تعالى للإنسان من إمكانية التصرف الإرادي المجرد عن كل ضغط أو إكراه، لتحصيل حقه وأداء واجبه دون تعسف أو اعتداء.
ضوابط الحرية في الإسلام:
العبودية لله تعالى: وهذا يعني التحرر من عبادة الإنسان أو الدواب أو الهوى …، إلى إخلاص العبادة لله وحده، قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْت الْجِنّ وَالْإِنْس إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾.
رضا الله تعالى: لذلك فالإنسان وهو يمارس حريته ملزم بكافة القوانين والتشريعات الإلهية خوفا من غضب الله تعالى وخشية من الخروج عن طاعته.
المسؤولية: خَيَّرَ الله تعالى الإنسان بين الإيمان والكفر وحَمَّلَهُ مسؤولية أفعاله وتصرفاته بأن يرضى بمصير اختياره إن كان حسنا أو سيئا.
– مرتكزات الحرية:
القدرة على اتخاذ القرار.
القدرة على الاختيار.
عدم الخضوع لأي ضغط أو إكراه.
– حدود الحرية وصورها في الإسلام:
1 – حدود الحرية (حريتي وحرية الآخرين):
ألا تتجاوز هذه الحرية حدود الشرع: حرية المسلم مقيدة بحدود الشرع، فلا يجوز له ارتكاب المعاصي والمحرمات بدعوى الحرية.
أن تنتهي هذه الحرية حيث تبدأ حرية الآخرين: حرية الإنسان المسلم تحرم عليه إيذاء الغير وإزعاج الآخرين، وإلا كانت ذلك فوضى وليست حرية.
2 – أنواع الحرية ومزاياها في التصور الإسلامي:
الحرية الدينية: فلا يجوز إكراه أحد على اعتناق دين أو تركه، قال تعالى: ﴿لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾، وقال سبحانه أيضا: ﴿فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ﴾، وبالمقابل حمَّلَ الإسلام الإنسان مسؤولية اختياره.
الحرية الفكرية: أعطى الإسلام للإنسان حرية التفكير والتعبير في حدود الآداب العامة والأخلاق الفاضلة، شريطة عدم السب واللعن والكذب والقذف، وكل ما يدخل ضمن آفات اللسان.
الحرية السياسية: وهي حق الإنسان في اختيار سلطة الحكم وانتخابها …، وتنبيهها إذا انحرفت عن منهج الله وشرعه بدون فوضى ولا نزاع.
حرية الإرادة: فلا يحاسب الإنسان ولا يجازى إلا إذا كانت أفعاله وأقواله صادرة عن إرادته الحرة بلا إكراه أو ضغط، قال رسول الله ﷺ: «إِنَّ اللَّهَ وَضَعَ عَنْ أُمَّتِي الْخَطَأَ وَالنِّسْيَانَ وَمَا اسْتُكْرِهُوا عَلَيْهِ».
الصفحة: 1 2
نماذج مشرقة للحرية في الإسلام:
الجيل القرآني الفريد:
من أهم النماذج على الإطلاق للحرية الإنسانية هو ذلك النموذج الفريد، والذي رباه النبي صلى الله عليه وسلم على عينه، كيف أخرجم محمد صلى الله عليه وسلم من ظلمات الجهل إلى نور الإسلام؟! بل قل: كيف أخرجهم محمد صلى الله عليه وسلم من العبودية لذاتهم وشهواتهم للحرية في معناها الأعلى والأسمى بأن تكون لله عزوجل؟!
وضح ذلك جلياً من كلمات جعفر بن أبي طالب حينما وقف أمام النجاشي حينما سألهم عن سبب اضطهاد الوثنية القرشية للمسلمين فقال رضي الله عنه:
” أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميته، ونأتي الفواحس، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف- هذه هي معاني العبودية الحقيقية- فكنا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحده ونعبده ونخلع ما كنا نعبد نحن وأباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا بصدق الحديث وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام” .
هكذا كان “الجيل القرآني الفريد” مخلصين لله في أعماهم، متخلقين بأخلاق نبيهم صلى الله عليه وسلم، متحررين من عبادة ذواتهم وشهواتهم إلى عبادة الله الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد.
الفتوحات الإسلامية:
هذه الفتوحات التي حررت الشرق من قهر الفرس والروم- القهر السياسي والاجتماعي والاقتصادي والديني والثقافي الذي دام عشرة قرون- وذلك عندما فتح هذا الجيل القرآني الفريد في ثمانين عاماً- أوسع مما فتح الرومان في ثمانية قرون.. وشتان بين فتح وفتح.. شتان بين فتح حرر الضمائر والأوطان ثم ترك الناس أحراراً وما يدينون – حتى أن نسبة الذين أسلموافي مصر وسوريا وفارس بعد قرن من الفتوحات الإسلامية كان 10% من السكان..(8) شتان بين هذا الفتح التحريري وبين الفتح الروماني الذي حول كل شعوب المستعمرات إلى برابرة ورقيق وأقنان.
وهذا ما شهد به أهل هذه البلاد ، وظهر ذلك في أقوالهم، فنقل الأسقف “يوحنا النقوس” الذي كان شاهد عيان على الفتح الإسلامي لمصر- فرح الشعب المصري بالفتح الذي حرر الضمائر والوطن والأديرة والبطرك.. فقال:
” كان كل الناس يقولون: إن انتصار الإسلام كان بسبب ظلم هرقل، وبسبب اضطهاد الأرثوذكسيين وأن عمرو بن العاص لم يأخذ شيئاً من مال الكنائس، ولم يرتكب شيئاً ما سلباً أو نهباً، وحافظ على الكنائس طوال الأيام ” كما نقل النقيوسي كلمات البطرك “بنيامين”، الذي حرره الفتح الإسلامي، ورده إلى كنائسه وأديرته، وأعاده إلى منصبه بعد عزل البطرك الروماني، فلقد زار “بنيامين” كنائسه وخطب في دير “دير مقاريوس” وقال: ” لقد وجدت في الإسكندرية زمن النجاة والطمأنينة اللتين كنت أنشدهما، بعد الاضطهاد والمظالم التي قام بتمثيلها الظلمة المارقون” الرومان. (9)
فلما كانت المخاطر الخارجية-الصليبية[489-690 هـ/ 1096-1291م] والتترية [656-659 هـ/1258-1261م]- التي هددت الوجود الإسلامي- مدت هذه المخاطر في عمر “عسكرة الدولة” .. فأصبحت الغلبة “لقوة العضلات” بدلاً من “ملكات العقل والعقلانية” .. وعدت الأرض إقطاعاً للمماليك مقابل حمايتها من الصليبين والتتار، وأصبحت”الدولة” قوة قهر واستبداد تراجعت من فضائها قيم الحرية والشورى ومشاركة الأمة في صناعة القرار.. وأخذ فقهاء السلاطين ينظرون ويبررون لحكم التغلب، ويدعون لطاعة أهل الفسق والفجور طالما تغلبوا بالقوة على البلاد والعباد!.(10)
هذه هي النظرة الإسلامية للحرية، فهل يقرأ هؤلاء المتطاولون على هذا الدين الحنيف؟ قبل أن يصدروا أحكاماً قد عفا عليها الزمن، وقد انتهت صلاحيتها في هذه الحياة.
المراجع:
1- المفهوم الإسلامي للحرية،د.محمد عمارة، مجلة الأزهر ذوالقعدة 1433 هـ، أكتوبر 2012م الجزء”11″ السنة” 85″.
2- النسفي (مدارج التنزيل وحقائق التأويل) ط1 ص189.طبعة القاهرة.1344 هـ.
3- المفهوم الإسلامي للحرية، د.محمد عمارة، مجلة الأزهر ذوالقعدة 1433 هـ، أكتوبر 2012م الجزء”11″ السنة” 85″.
4- المرجع السابق.
5- مجلة(الأستاذ)- العدد التاسع عشر- ص439- القاهرة- في 8جمادى الآخرة 1310 هـ- 27 ديسمبر 1892م.
6- محمد عبده (الأعمال الكاملة)، ص317-ص319، دراسة وتحقيق:د، محمد عمارة، طبعة بيروت1972م.
7- حسن البنا (مجموعة الرسائل) ص131،132، طبعة دار الشهاب، القاهرة ، بدون تاريخ.
8- فيليب فارج يوسف كرياج (المسيحيون واليهود في التاريخ الإسلامي والعربي والتركي) ص 25 ترجمة: بشير السباعي، طبعة القاهرة 1994م.
9- تاريخ مصر ليوحنا النقيوس ص200،201 ترجمة ودراسة: د. صابر عبد الجليل . طبعة القاهرة 2000م.
10- المفهوم الإسلامي للحرية، د.محمد عمارة، مجلة الأزهر ذوالقعدة 1433 هـ، أكتوبر 2012م الجزء”11″ السنة” 85″.
11- الحريات العامة في الدولة الإسلامية: راشد الغنوشي.
12- التصور الإسلامي للحرية: المودودي.
13- مواقع الكترونية أخرى.